الشِّـعـْـرُ فنُّ العربية الأول، وأكثر فنون القول هيمنة على
التاريخ
الأدبي عند العرب، خصوصًا
في عصورها الأولى؛ لسهولة حفظه وتداوله. وقد شاركته في الأهمية بعض الفنون الأدبية الأخرى كالخطابة. وبعد
تطور الكتابة وانتشارها واتصال العرب بغيرهم، دخلت بقية
الفنون الأدبية الأخرى، المتمثلة في النثر بأشكاله المختلفة لتساهم جنبا إلى جنب، مع الشعر في تكوين تراث الأدب العربي.
ويُعدُّ الشعر وثيقة يمكن الاعتماد عليها في التعرُّف على أحوال
العرب وبيئاتهم وثقافتهم وتاريخهم، ويلخص ذلك قولهم:الشعرديوان العرب.
حاول النقاد العرب تقديم تصوُّر عن الشعر ومفهومه ولغته وأدائه. وقد ظهرت تلك المحاولة في
تمييزه
عن غيره من أجناس القول،
فبرز الوزن والقافية بوصفهما مميزين أساسيين للشعر عن غيره من فنون القول، لذلك ترى أكثر تعريفاتهم أن الشعر كلام موزون مُقَفَّى. وأهم مايميّز الشعر القديم حرصه على الوزن والقافية وعلى مجيء البيت
من صدر
وعجز. لكن الناظر في كتبهم
يلاحظ أن مفهومهم للشعر يتجاوز الوزن والقافية إلى جوانب أخرى، وذلك من خلال تعرفهم على الشعر في مقابلة الفنون الأخرى، فيصبح مثلها؛ مهمته
إيجاد
الأشكال الجميلة وإن اختلف
عنها في الأداة.
ومن ثم ظهر الاهتمام بقضايا الشعر ولغته، فظهرت الكتب في ضبط أوزانه وقوافيه، كما ظهرت دراسات عن الأشكال
البلاغية التي يعتمدها الشعراء في إبداع نصوصهم، مثل:
الاستعارة والتشبيه والكناية وصنوف البديع.
وكما ظهرت كتب تقدم وصايا للشعراء تعينهم على
إنتاج نصوصهم، وتُبَصِّرُهم بأدوات الشعر وطرق الإحسان فيه، ظهرت كتب أخرى في نقد الشعر وتمييز جيده من رديئه. كما اهتمت كتب أخرى بجمعه وتدوينه وتصنيفه في مجموعات حسب أغراضه وموضوعاته.
وقد جعلوا
الشعر حافلاً بوظيفتي الإمتاع والنفع، فهو يطرب ويشجي من جهة، ويربي
ويهذب ويثبِّت القيم، ويدعو إلى الأخلاق الكريمة وينفر من
أضدادها من جهة أخرى.
وتتراوح أغراض الشعر بين مديح وهجاء وفخر ورثاء وغزل ووصف واعتذار
وتهنئة
وتعزية، ثم أضيفت إلى ذلك
موضوعات جديدة جاءت نتيجة تغير الحياة العربية مثل الزهد والمجون، بل تغيرت معالجة الموضوعات القديمة كما ظهر
عند أبي نواس وغيره من شعراء العصر العباسي.
وعلى الرغم من هذا الحرص على شكل البيت الشعري،
فإن تراث القصيدة العربية عرف من الأشكال ما سمي بالمسمَّطات
والمخمَّسات والمربَّعات. كما عرفت الأندلس شكل الموشحة التي كانت خروجًا على نظام القصيدة في الأوزان
والقوافي. انظر: الجزء الخاص بالموشحات في هذه المقالة.
وفي العصر الحديث، عرف الشعر ألوانًا جديدة من الأشكال الشعرية، منها الشعر المُطلق أوالمرسل الذي يتحرر من القافية الواحدة ويحتفظ بالإيقاع دون
الوزن. وكذلك
الشعرالحر، وهو الشعر الذي يلتزم وحدة التفعيلة دون البحر أي وحدة الإيقاع.
وسُمّي
بشعر التفعيلة. وأما اللون الذي لا يلتزم بوزن أو قافية فقد عرف بالشعر
المنثور. انظر: الجزء الخاص بقصيدة النثر،والشعر الحر،والشعر
المرسل
في هذه المقالة.
وكما اختلف الشكل حديثًا اختلف المضمون كذلك،
وتحولت التجارب الشعرية الحديثة إلى الدلالات الاجتماعية
والنفسية والرمزية التي تكامل فيها الشكل والمضمون معًا.
رواية الشعر ورواته
كان العرب في الجاهلية أُمّـةً أُمِّـيَّـةً تغلب
عليها المشافهة وتقل فيها الكتابة، ولهذا السبب لم
يكن الشعراء الجاهليون يدونون أشعارهم، وإنما كان رواتهم، وهم عادة من ناشئة الشعراء، يتولون مهمة حفظ ذلك الشعر وإشاعته بين الناس. وهؤلاء الرواة الذين وصفناهم بأنهم من ناشئة الشعراء
قد قويت قرائحهم بعد ذلك، فأصبحوا أو أصبح بعضهم من
الشعراء المشاهير. فقد روت المصادر أن زهيرًا ابن أبي سُلمى كان راوية لأوس بن حجر، وروى عن زهير ابنه كعب
والحُطَيئة، كما روى شعر الحطيئة هدبةُ بن خشرم، ثم
روى جميل بن معمر شعر هدبة بن خشرم، وروى كُثَيِّر عزة شِعْرَ جميل وهكذا دواليك.
وعندما جاء الإسلام شُغل العرب عن رواية الشعر فترة من الزمان، ولكنهم بعد اتساع الفتوحات الإسلامية، واستقرارهم في
الأمصار عادوا إلى رواية الشعر ومُدارسته، وهنا نجد فئة من الرواة نذرت نفسها لرواية هذا الشعر وجمْعه ومحاولة تنقيته من كل ما هو زائف.
ثُمَّ نشأت طائفة أخرى من الرواة لم يكونوا ممن
يحسنون نظم الشعر، فهم لا يروونه من أجل أن يتعلموا طريقته
لكي يصبحوا شعراء، وإنما يروونه بقصد إذاعته بين الناس. فقد روت المصادر الأدبية أنه كان لجرير والفرزدق عدة
رواة يلزمونهما ويأخذون عنهما شعرهما. ولم يكن هذا الأمر
وقفًا على جرير والفرزدق فحسب بل إن غيرهما من الشعراء كان لهم رواة وتلاميذ.
وبعد ازدهار الحياة العلمية والثقافية في مدينتي
البصرة والكوفة أصبحت هاتان المدينتان قبلة لطلاب
المعرفة، وصارتا تتنافسان في استقطاب العلماء والأدباء والشعراء، فازدهرت فيهما رواية الشعر ودراسته بشكل لم يَسبق له نظير. وبرز في كل مدينة
من هاتين المدينتين أعلام مشاهير، جمعوا أشعار
الجاهليين والإسلاميين، وكانوا يحرصون على أخذ هذا الشعر من الرواة مشافهة، ولم يكونوا يعولون على الأخذ من
الكتب أو الصحف، ولا يثقون بمن يعتمد على ذلك. وقد عُرف
رواة البصرة بالتشدد في الرواية والتدقيق فيها، وكانت معاييرهم أكثر دقة من معايير رواة الكوفة الذين
امتازوا بالتوسع في الرواية والتسامح في بعض جوانبها.
ومن أشهر رواة الشعر بالبصرة أبو عمرو بن العلاء، وكان ثقة أمينًا، وهو
أحد القراء السبعة الذين أخذت عنهم تلاوة القرآن
الكريم، وقد وُصف بأنه ¸أعلم الناس بالغريب، والعربية
وبالقرآن، والشعر وأيام العرب وأيام الناس·.
ومن أشهر رواة الكوفة حماد الراوية، وكان واسع
الرواية قوي الحفظ عالمًا بأشعار العرب وأخبارها، ولكنه لم
يكن ثقة، بل كان كما يقول ابن سلام الجمحي: "ينحل شعرَ الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار".
ومن مشاهير رواة البصرة خلف الأحمر، وكان في
معرفته بالشعر وأخبار العرب لا يقل عن حماد الراوية. ومن رواة
البصرة الثقات أيضًا عبدالملك بن قريب الأصمعي، وهو من أعلم الناس بأشعار الجاهلية وأخبارها، وقد اختار من
أشعار العرب مجموعة شعرية عرفت بالأصمعيات. وهي مشهورة ومتداولة. انظر: الجزء الخاص بالأصمعياتفي هذه المقالة. وقد رويت عنه
دواوين كثيرة أشهرها دواوين: امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة. انظر: الأصمعى. ومن رواة البصرة أيضًا أبو سعيد السكري، وله الفضل الأكبر
في جمع كثير من دواوين الشعراء الجاهليين.
كما يعدُ المفضل بن محمد الضبِّي من أبرز رواة
الكوفة، وكان عالمًا بأشعار الجاهلية، وأخبارها
وأيامها، وأنساب العرب، وأصولها. وقد اختار مجموعة من أشعار العرب عُرفتبالمفضليات. وهي مطبوعة ومتداولة. انظر: الجزء الخاص بالمفضليات في هذه المقالة. ومن الرواة الكوفيين أيضًا أبو عمرو
الشيباني،
وابن الأعرابي، وابن
السكّيت، وثعلب، وغيرهم. ولكل راوية من هؤلاء الرواة ترجمة في هذه الموسوعة.